فن

مسلسل «بدون سابق إنذار»: إعادة نظر في معنى الأسرة

على الرغم من موضوع المسلسل الشائك، إلا أنه لم يكن عملاً إثارياً أو محركاً لجدالات محتدمة، بل سارت أحداثه بشكل هادئ ومتمهل تبزغ منها مفاجآت من حين لآخر

future بوستر مسلسل «بدون سابق إنذار»

عرض مسلسل «بدون سابق إنذار» في إطار عروض النصف الثاني من مسلسلات رمضان الماضي، إذ تم الاتفاق ضمنياً منذ نحو ثلاثة مواسم من عروض المسلسلات على تقسيم عدة أعمال لنصف أول ونصف ثان كل عمل يضم 15 حلقة فقط.

حرك المسلسل نقاشاً مجتمعياً حول أسئلة عامة عن الأسرة والأمومة والأبوة، وأثار جدلاً حول تفسير نهايته وآراء حول حبكته الرئيسية، لكنه وعلى الرغم من موضوعه الشائك لم يكن عملاً إثارياً أو محركاً لجدالات محتدمة، بل سارت أحداثه بشكل هادئ ومتمهل تبزغ منها مفاجآت من حين لآخر.

«بدون سابق إنذار» من إخراج هاني خليفة الذي اعتاد تقديم أعمال تتناول ديناميكيات العلاقات العائلية والخارجة عن العائلة، ومن تأليف ورشة من الكتاب. هو عمل همه الرئيسي تفكيك معنى الأسرة بخاصة معنى الأبوة/ الأمومة والبنوة، وهشاشة روابط الدم مقابل روابط الحب. تعمل الحبكة الرئيسية لغزاً في انتظار الحل بجانب كونها محفزاً لاستكشاف هشاشة الحياة ووهم الاستقرار، مستكشفاً شكل العلاقات الأسرية والزوجية والتوتر الطبقي الذي يصنع سطحاً مثالياً يغلي تحته قلق من انهيار كل شيء.

ينطلق «بدون سابق إنذار» من فرضية رئيسية بسؤال: ماذا لو، السؤال هنا ماذا لو اكتشفت أن ابنك ليس ابنك، أن الطفل الذي أمضيت سنوات تربيه وتطعمه وتكون معه روابط عاطفية أمومية وأبوية هو ابن لرجل وامرأة مختلفين بجينات مغايرة وخيارات وظروف حياتية أخرى، يزرع العمل ذلك الافتراض من سلسلة من المصادفات والخلافات، يبدأها بإرساء توتر في زواج الشخصيتين الرئيسيتين مروان وليلى/ آسر ياسين وعائشة بن أحمد.

العلاقة الرئيسية في المسلسل هي بين شخصين من خلفيات اجتماعية وطبقية متقاربة يعيشان حياة تبدو مثالية مستقرة مادياً، كلاهما حسن المظهر بشكل ملحوظ لكن تحت السطح المثالي تغلي خلافات ميكروسكوبية، غير واضحة أو متفجرة، لا توجد علامات ظاهرة أو خلافات جوهرية قائمة، لكن يوجد توتر وصدع ملحوظ، يبتلعه كشف كبير عن طفلهما الوحيد.

ماهية البنوة

تبدأ مثالية الاستقرار بالاضطراب حينما يكتشف الزوجان مرض ابنهما عمر (سليم يوسف) بسرطان الدم، مما يستدعي إجراء تحاليل مطابقة حمض نووي مع أفراد أسرته وأبناء أعمامه تحسباً لاحتياجه عملية نقل النخاع الشوكي، لحظات بعد تلقي الصدمة الأولى بانهيار الاستقرار الأسري بمرض الابن بمرض عضال، تتلقى الأسرة الصدمة الثانية في شك أن ذلك الطفل لا يطابق تحليل حمضه الأب ولا الأم، وهو ما يستجيب له مروان بالشك المباشر في زوجته التي يخشى أنها تجمعها علاقة بحبيبها السابق، يضفر العمل تلك التعقيدات المتشابكة من تفكك العلاقة العاطفية الثنائية والخوف من فقد الابن، الذي يساعد على استمرارها، التي تضرب أوصال الأسرة المثالية التي يصور مثاليتها إلى حد الجمود أحياناً، لكن تنصهر كل الخلافات الجانبية لصالح الخلاف الأصلي: من هو الابن، وهل يخفف المصاب أن ذلك الطفل المصاب بالسرطان في طور العلاج لا يربط الزوجين به رابط دم حقيقي؟ تتكون تلك التساؤلات في إطار يوميات من البحث الذي يطول ويتكرر، بذهاب الزوج إلى الإسماعيلية مسقط رأس ابنه للتحقيق في حقيقة تبديل ولدين في المستشفى التي ولدت بها زوجته.

آسر ياسين وسليم يوسف في «بدون سابق إنذار»

في خضم عمليات البحث تعيش ليلى صراعات داخلية متعلقة بجوهر الأمومة، بالتوق لمعرفة الحقيقة، وفي الوقت نفسه باستحالة التخلي عن الابن الذي أصبح ابنها سواء كان يحمل نصف حمضها النووي أو لا، لكن الشعور الرئيسي المسيطر هو خوفها على الطفل المريض، يبدأ صراع علاقة الدم وعلاقة الاحتضان في الاحتدام مع نهاية العمل، بشكل يمكن وصفه بالمتأخر مع اجترار وتكرار الأحداث.

عندما يصبح الطفل الآخر (الابن الحقيقي) موجود فعلاً وليس مجرد طيف ينزلق بين الأيدي، كما أنه مع تقابل الأسرتين، الطفلين والأمين تصبح تيمات المسلسل أكثر تبلوراً، فالأم مها (مريم الخشت) التي تأوي طفلها غير البيولوجي من طبقة مختلفة تماماً عن ليلى، يثير ذلك التضاد تساؤلات بشأن القدر نفسه، ومصلحة الطفل الذي وجد علاجاً في أسرة مختلفة لم يكن ليتوفر له بالسهولة نفسها لو كان في أسرته الأصلية، لكن الأحداث اليومية للعمل تركز بشكل أكبر على رحلة بحث مروان ذهاباً وإياباً ربما في إيماءة لاهتمامه كرجل وزوج بالابن الذي من صلبه حقاً، لكنه في الوقت نفسه يبدي رقة واهتماماً كبيرين تجاه ابنه الحالي عمر، وتظهر بينهما كيمياء حقيقية مؤثرة تشير دون حاجة إلى شرح أو تبرير تلك الروابط التي لا يحددها أي قيمة بيولوجية غير الحب والوقت.

توترات طبقية

يتفرع «بدون سابق إنذار» من العلاقة الرئيسية لأسرة أخرى هي أسرة حسن (أحمد خالد صالح) شقيق مروان وزوجته نهى (جهاد حسام الدين)، هنا يبدأ العمل في استكشاف هشاشة مثالية الطبقة التي يتحرك داخلها، ويخلق ديناميكية ربما تكون أكثر إثارة للاهتمام من الزوج الرئيسي، لنهى شقيق مدمن سابق على المخدرات ومتاجر حالي بها، ويظهر السيناريو مراراً من خلال ازدراء زوجها عائلتها أنها قادمة من طبقة مغايرة، وأصبحت في وضعها الحالي نتيجة للزواج بجانب عملها بما قدم لها داخل تلك المنظومة التشاركية مادياً، المميز في تناول تلك العلاقة هي استحالة أخذ الصفوف، لكن في الوقت نفسه محاولة الكشف عن تصور رئيسي متعلق بالأبوية الطبقية، والحياة التي تعتمد على العطاء المشروط والمن المستمر.

آسر ياسين وعائشة بن أحمد في «بدون سابق إنذار»

تظهر نهى كأخت حنونة تهتم بأخيها على الرغم من مصائبه المتعددة في الوقت الذي يعايرها زوجها بأن كل ثروة تمتلكها هي من صناعته، لكنه في الوقت نفسه يعطينا حق تفهم حسن والتوتر الناتج عن عدم التوازن المادي والاجتماعي، في الوقت نفسه التي تتفسخ به تلك العلاقة تنشأ علاقة بين حسن وأمينة (نورا شعيشع) صديقة ليلة وزميلتها في العمل في مجال العقارات، والتي تبدو على السطح بديات تعارف رومانسي تتكشف أنانيته مع الوقت.

يعطي المسلسل الوقت لشخصية أمينة التي لم تتزوج بعد وتتأرجح بين الفخر بالنجاح المادي والاجتماعي، والشعور بالوحدة الناتجة بالأساس عن هشاشة علاقات الصداقة، خاصة بسبب انغماس الأصدقاء المتزوجين داخل حياتهم بالكامل، مع نبذ لمشكلات الآخرين باعتبارها لا ترقى للقدر نفسه من القلق أو الاهتمام، كما يستعمل العمل أمينة مدخل لمناقشة مقتضبة حول تجميد البويضات، كشكل آخر من أشكال الأمومة، بالتوق لها أو حفظها كاحتمالية مستقبلية.

هشاشة الاستقرار

تسهم تلك الديناميكيات بين الشخصيات والعلاقات المختلفة، بجانب التوترات الطبقية في رسم صورة مضطربة لشكل حياة طبقة مستقرة مادياً، ويعزز من ذلك التوتر بصريات المسلسل الباردة المصمتة التي ربما تكون غير مقصودة لكنها تقارب شكل من الديستوبيا المعاصرة، تحدق المباني الضخمة الجامدة بمن تحتها من أفراد ضئيلون، تلك العمارة التي تتميز بها المدن الجديدة والمباني الحديثة في المناطق القديمة ذات أطراف حادة قاطعة، وطابع هندسي مهيمن، تجعل ذلك العالم الذي يبدو ثابتاً مستقراً مهدداً في الوقت نفسه وقادراً على سجن سكانه داخله.

يمزج تصميم المناظر في العمل بين نعومة نسبية داخل بيت مروان وليلى لمزج الديكور الداخلي بين البيوت الكلاسيكية والديكور المنميمالي المعاصر، لكن التصوير الخارجي للأبنية يصنع حالة من القلق الوجودي الذي يتضاد مع النزعات البروباجندية المزروعة داخل السيناريو، مثل ذكر العاصمة الإدارية الجديدة ذات العمارة الحديثة المصمتة في مكتب العقارات حيث تعمل ليلى.

في «بدون سابق إنذار» تتحرك الشخصيات في مساحات داخلية بيضاء مسطحة بزوايا مضطربة غير مرنة، الجميع يرتدي ملابس غالية منضبطة القياس، لا تخرج الشخصيات الرئيسية بخاصة مروان وليلى عن الضوابط الهامة للطبقة التي صنعوها لأنفسهم ووجدوا أنفسهم داخلها، حتى مع حلول أصعب المصائب على حياتهم لا يبدو عليهم التأثر الشكلي بالإهمال في المظهر مثلاً.

يعمل ذلك الجمود والمثالية الظاهرية غطاء للهشاشة ويصلح مجازاً عن كل شيء، عن هشاشة الأمان والاستمرارية ووهم الاستقرار وحتى التأكد، فالحياة التي يعيشها الزوجان حياة مغلقة ومنتهية كل شيء بها محلول مسبقاً، لا يحدث حتى أحداث النهاية ومقابلة الطفل الآخر ووالدته أن يصبح ذلك الجمود أكثر ليونة، ويصبح هنالك انفتاح جديد على مفهوم الأسرة، كيف تتشكل وكيف تتحدد، وعن الهوية ذاتها وطبيعة الرعاية الأمومية.

يقفز العمل قفزة زمنية سريعة بعد أن يحل لغزه الرئيسي بإيجاد كل أم لطفلها البيولوجي، لا يمهد لانصهار الأسرتين لكنه يضع حل الانصهار كأمر واقع وطبيعي، وكأنه يسأل ما الطبيعي بالأساس: الأسرة النووية المكونة من زوج وزوجة في بيت كبير من طبقة واحدة وطفل واحد، أم خيار أكثر سيولة يتيح للأم التي احتضنت طفل لا يربطها بيولوجياً أن تظل أمه وأن يكون لكل طفل أمين بشكل اعتباري أم عرفها في مرحلة طفولته وحضانته الأولى وأم يستعيدها بينما يكبر.

يتعامل «بدون سابق إنذار» مع فرضية ميلودرامية كلاسيكية وهي الخطأ في الهوية وما يصاحب ذلك من رحلات بحث وأسئلة عن حقيقة الحياة وأولوياتها، ويصنع بذلك الموضوع الرئيس مساحة لتأمل العلاقات الزوجية والتوترات الطبقية ومعاني الأسرة ومدى جمودها وسيولتها، ربما لا يصل لما تعد به إمكانيات الحلقات الأولى لكنه يطرح تيماته بتؤدة وهدوء يقلب السمات الميلودرامية المتوقعة وينقل ذاته إلى فضاء المسلسلات الأكثر جدية وواقعية، ويصل إلى حلول معقدة تتجنب البساطة أو الحسم.

# مسلسل بدون سابق إنذار # آسر ياسين # دراما رمضان # مسلسلات رمضان

فن